فصل: جَوَابُ ابْنِ تَيْمِيّةَ عَنْ التّفْضِيلِ بَيْنَ لَيْلَتَيْ الْقَدْرِ وَالْإِسْرَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.التّفْضِيلُ بَيْنَ الْأَزْمِنَةِ:

وَمِنْ هَذَا تَفْضِيلُهُ بَعْضَ الْأَيّامِ وَالشّهُورِ عَلَى بَعْضٍ فَخَيْرُ الْأَيّامِ عِنْدَ اللّهِ يَوْمُ النّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ كَمَا فِي السّنَنِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أَفْضَلُ الْأَيّامِ عِنْدَ اللّهِ يَوْمُ النّحْرِ ثُمّ يَوْمُ الْقَرّ وَقِيلَ يَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ قَالُوا: لِأَنّهُ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ وَصِيَامُهُ يُكَفّرُ سَنَتَيْنِ وَمَا مِنْ يَوْمٍ يُعْتِقُ اللّهُ فِيهِ الرّقَابَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَلِأَنّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَدْنُو فِيهِ مِنْ عِبَادِهِ ثُمّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ. وَالصّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوّلُ لِأَنّ الْحَدِيثَ الدّالّ عَلَى ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ يُقَاوِمُهُ وَالصّوَابُ أَنّ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النّحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ} [التّوْبَةُ 3] وَثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَذّنَا بِذَلِكَ يَوْمَ النّحْرِ لَا يَوْمَ عَرَفَةَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِأَصَحّ إسْنَادٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ: «يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النّحْرِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ مُقَدّمَةٌ لِيَوْمِ النّحْرِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنّ فِيهِ يَكُونُ الْوُقُوفُ وَالتّضَرّعُ وَالتّوْبَةُ وَالِابْتِهَالُ وَالِاسْتِقَالَةُ ثُمّ يَوْمُ النّحْرِ تَكُونُ الْوِفَادَةُ وَالزّيَارَةُ وَلِهَذَا سُمّيَ طَوَافُهُ طَوَافَ الزّيَارَةِ لِأَنّهُمْ قَدْ طَهُرُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ ثُمّ أَذِنَ لَهُمْ رَبّهُمْ يَوْمَ النّحْرِ فِي زِيَارَتِهِ وَالدّخُولِ عَلَيْهِ إلَى بَيْتِهِ وَلِهَذَا كَانَ فِيهِ ذَبْحُ الْقَرَابِينِ وَحَلْقُ الرّءُوسِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَمُعْظَمُ أَفْعَالِ الْحَجّ وَعَمَلُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَالطّهُورِ وَالِاغْتِسَالِ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْيَوْمِ. وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَيّامِ فَإِنّ أَيّامَهُ أَفْضَلُ الْأَيّامِ عِنْدَ اللّهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «مَا مِنْ أَيّامٍ الْعَمَلُ الصّالِحُ فِيهَا أَحَبّ إلَى اللّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيّامِ الْعَشْرِ» قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءِ» وَهِيَ الْأَيّامُ الْعَشْرُ الّتِي أَقْسَمَ اللّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الْفَجْرُ 12] وَلِهَذَا يُسْتَحَبّ فِيهَا الْإِكْثَارُ مِنْ التّكْبِيرِ وَالتّهْلِيلِ وَالتّحْمِيدِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَكْثِرُوا فِيهِنّ مِنْ التّكْبِيرِ وَالتّهْلِيلِ وَالتّحْمِيدِ سَائِرِ الْبِقَاعِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشّهُورِ وَتَفْضِيلُ عَشْرِهِ الْأَخِيرِ عَلَى سَائِرِ اللّيَالِي وَتَفْضِيلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ. فَإِنْ قُلْت: أَيّ الْعَشْرَيْنِ أَفْضَلُ؟ عَشْرُ ذِي الْحِجّةِ أَوْ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ؟ وَأَيّ اللّيْلَتَيْنِ أَفْضَلُ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ؟

.الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ عَشْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعَشْرِ ذِي الْحِجّةِ:

قُلْت: أَمّا السّؤَالُ الْأَوّلُ فَالصّوَابُ فِيهِ أَنْ يُقَالُ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ وَأَيّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيّامِ عَشْرِ رَمَضَانَ وَبِهَذَا التّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنّ لَيَالِيَ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ إنّمَا فُضّلَتْ بِاعْتِبَارِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَهِيَ مِنْ اللّيَالِي وَعَشْرُ ذِي الْحِجّةِ إنّمَا فُضّلَ بِاعْتِبَارِ أَيّامِهِ إذْ فِيهِ يَوْمُ النّحْرِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ التّرْوِيَةِ.

.جَوَابُ ابْنِ تَيْمِيّةَ عَنْ التّفْضِيلِ بَيْنَ لَيْلَتَيْ الْقَدْرِ وَالْإِسْرَاءِ:

وَأَمّا السّؤَالُ الثّانِي فَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَقَالَ آخَرُ بَلْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَفْضَلُ فَأَيّهُمَا الْمُصِيبُ؟ فَأَجَابَ الْحَمْدُ لِلّهِ أَمّا الْقَائِلُ بِأَنّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ تَكُونَ اللّيْلَةُ الّتِي أُسْرِيَ فِيهَا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَظَائِرُهَا مِنْ كُلّ عَامٍ أَفْضَلَ لِأُمّةِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِحَيْثُ يَكُونُ قِيَامُهَا وَالدّعَاءُ فِيهَا أَفْضَلَ أَحَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاطّرَادِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. هَذَا إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ تُعْرَفُ عَيْنُهَا فَكَيْفَ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ لَا عَلَى شَهْرِهَا وَلَا عَلَى عَشْرِهَا وَلَا عَلَى عَيْنِهَا بَلْ النّقُولُ فِي ذَلِكَ مُنْقَطِعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَا يُقْطَعُ بِهِ وَلَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ تَخْصِيصُ اللّيْلَةِ الّتِي يُظَنّ أَنّهَا لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ بِقِيَامِ وَلَا غَيْرِهِ بِخِلَافِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَإِنّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ تَحَرّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وَأَنّهُ أَنْزَلَ فِيهَا الْقُرْآنَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنّ اللّيْلَةَ الْمُعَيّنَةَ الّتِي أُسْرِيَ فِيهَا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحَصَلَ لَهُ فِيهَا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْرَعَ تَخْصِيصُهَا بِقِيَامٍ وَلَا عِبَادَةٍ فَهَذَا صَحِيحٌ وَلَيْسَ إذَا أَعْطَى اللّهُ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَضِيلَةً فِي مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الزّمَانُ وَالْمَكَانُ أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ. هَذَا إذَا قُدّرَ أَنّهُ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ إنْعَامَ اللّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ إنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ النّعَمِ الّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا. وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى عِلْمٍ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَقَادِيرِ النّعَمِ الّتِي لَا تُعْرَفُ إلّا بِوَحْيِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَتَكَلّمَ فِيهَا بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنّهُ جَعَلَ لِلَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهَا لَا سِيّمَا كَانَ الصّحَابَةُ وَالتّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ يَقْصِدُونَ تَخْصِيصَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِأَمْرِ مِنْ الْأُمُورِ وَلَا يَذْكُرُونَهَا وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ أَيّ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَإِنْ كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُشْرَعْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الزّمَانِ وَلَا ذَلِكَ الْمَكَانِ بِعِبَادَةِ شَرْعِيّةٍ بَلْ غَارُ حِرَاءٍ الّذِي اُبْتُدِئَ فِيهِ بِنُزُولِ الْوَحْيِ وَكَانَ يَتَحَرّاهُ قَبْلَ النّبُوّةِ لَمْ يَقْصِدْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ النّبُوّةِ مُدّةَ مُقَامِهِ بِمَكّةَ وَلَا خُصّ الْيَوْمُ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْوَحْيُ بِعِبَادَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَلَا خُصّ الْمَكَانَ الّذِي اُبْتُدِئَ فِيهِ بِالْوَحْيِ وَلَا الزّمَانُ بِشَيْءِ وَمَنْ خَصّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ مِنْ عِنْدِهِ بِعِبَادَاتِ لِأَجْلِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ الّذِينَ جَعَلُوا زَمَانَ أَحْوَالِ الْمَسِيحِ مَوَاسِمَ وَعِبَادَاتٍ كَيَوْمِ الْمِيلَادِ وَيَوْمِ التّعْمِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَمَاعَةً يَتَبَادَرُونَ مَكَانًا يُصَلّونَ فِيهِ فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: مَكَانٌ صَلّى فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ؟ إنّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ بِهَذَا فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصّلَاةُ فَلْيُصَلّ وَإِلّا فَلْيَمْضِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النّاسِ إنّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي حَقّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ بِالنّسْبَةِ إلَى الْأُمّةِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ فَهَذِهِ اللّيْلَةُ فِي حَقّ الْأُمّةِ أَفْضَلُ لَهُمْ وَلَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ فِي حَقّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْضَلُ لَهُ.

.الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ يَوْمَيْ الْجُمْعَةِ وَعَرَفَةَ:

فَإِنْ قِيلَ فَأَيّهُمَا أَفْضَلُ يَوْمُ الْجُمْعَةِ أَوْ يَوْمُ عَرَفَةَ؟ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «لَا تَطْلُعُ الشّمْسُ وَلَا تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ يَوْمُ الْجُمْعَةِ».

.مَزِيّةُ وَقْفَةِ الْجُمْعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ:

قِيلَ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى تَفْضِيلِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ مُحْتَجّا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ أَنّ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالصّوَابُ أَنّ يَوْمَ الْجُمْعَةِ أَفْضَلُ أَيّامِ الْأُسْبُوعِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النّحْرِ أَفْضَلُ أَيّامِ الْعَامِ وَكَذَلِكَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَلَيْلَةُ الْجُمْعَةِ وَلِهَذَا كَانَ لِوَقْفَةِ الْجُمْعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ مَزِيّةٌ عَلَى سَائِرِ الْأَيّامِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدّدَةٍ:
أَحَدُهَا: اجْتِمَاعُ الْيَوْمَيْنِ اللّذَيْنِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَيّامِ.
الثّانِي: أَنّهُ الْيَوْمُ الّذِي فِيهِ سَاعَةٌ مُحَقّقَةُ الْإِجَابَةِ وَأَكْثَرُ الْأَقْوَالِ أَنّهَا آخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ وَأَهْلُ الْمَوْقِفِ كُلّهُمْ إذْ ذَاكَ وَاقِفُونَ لِلدّعَاءِ وَالتّضَرّعِ.
الثّالِثُ مُوَافَقَتُهُ لِيَوْمِ وَقْفَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
الرّابِعُ أَنّ فِيهِ اجْتِمَاعَ الْخَلَائِقِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِلْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَيُوَافِقُ ذَلِكَ اجْتِمَاعَ أَهْلِ عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ فَيَحْصُلُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ فَيَحْصُلُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْخَامِسُ أَنّ يَوْمَ الْجُمْعَةِ يَوْمُ عِيدٍ وَيَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ عِيدٍ لِأَهْلِ عَرَفَةَ وَلِذَلِكَ كُرِهَ لِمَنْ بِعَرَفَةَ صَوْمُهُ وَفِي النّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ فَإِنّ مَهْدِيّ بْنَ حَرْبٍ الْعَبْدِيّ لَيْسَ بِمَعْرُوفِ وَمَدَارُهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمّ الْفَضْلِ أَنّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمِ فَأَرْسَلْت إلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ.

.الْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ فِطْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ:

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ فِطْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لِيَتَقَوّى عَلَى الدّعَاءِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيّ وَغَيْرِهِ وَقَالَ غَيْرُهُمْ- مِنْهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ- الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنّهُ عِيدٌ لِأَهْلِ عَرَفَةَ فَلَا يُسْتَحَبّ صَوْمُهُ لَهُمْ قَالَ وَالدّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الّذِي فِي السّنَنِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النّحْرِ وَأَيّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ قَالَ شَيْخُنَا: وَإِنّمَا يَكُونُ يَوْمُ عَرَفَةَ عِيدًا فِي حَقّ أَهْلِ عَرَفَةَ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فَإِنّهُمْ إنّمَا يَجْتَمِعُونَ يَوْمَ النّحْرِ فَكَانَ هُوَ الْعِيدَ فِي حَقّهِمْ وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ إذَا اتّفَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ جُمْعَةٍ فَقَدْ اتّفَقَ عِيدَانِ مَعًا.
السّادِسُ أَنّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ إكْمَالِ اللّهِ تَعَالَى دِينَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَال: جَاءَ يَهُودِيّ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ تَقْرَءُونَهَا فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ وَنَعْلَمُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ لَاِتّخَذْنَاهُ عِيدًا قَالَ أَيّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَةُ 3] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: إنّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ وَالْمَكَانَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَنَحْنُ وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ السّابِعُ أَنّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ الْجَمْعِ الْأَكْبَرِ وَالْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا وَفِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللّهَ خَيْرًا إلّا أَعْطَاهُ إيّاهُ وَلِهَذَا شَرَعَ اللّهُ كَانَ الْمَبْدَأُ وَفِيهِ الْمَعَادُ وَلِهَذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْرَأُ فِي فَجْرِهِ سُورَتَيْ (السّجْدَةَ) و{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنْ خَلْقِ آدَمَ وَذِكْرِ الْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ وَدُخُولِ الْجَنّةِ وَالنّارِ فَكَانَ يُذَكّرُ الْأُمّةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِمَا كَانَ فِيهِ وَمَا يَكُونُ فَهَكَذَا يَتَذَكّرُ الْإِنْسَانُ بِأَعْظَمِ مَوَاقِفِ الدّنْيَا- وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ- الْمَوْقِفَ الْأَعْظَمَ بَيْنَ يَدَيْ الرّبّ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ وَلَا يَتَنَصّفُ حَتّى يَسْتَقِرّ أَهْلُ الْجَنّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَهْلُ النّارِ فِي مَنَازِلِهِمْ.
الثّامِنُ أَنّ الطّاعَةَ الْوَاقِعَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْأَيّامِ حَتّى إنّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْفُجُورِ يَحْتَرِمُونَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَتَهُ وَيَرَوْنَ أَنّ مَنْ تَجَرّأَ فِيهِ عَلَى مَعَاصِي اللّهِ عَزّ وَجَلّ عَجّلَ اللّهُ عُقُوبَتَهُ وَلَمْ يُمْهِلْهُ وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ اسْتَقَرّ عِنْدَهُمْ وَعَلِمُوهُ بِالتّجَارِبِ وَذَلِكَ لِعِظَمِ الْيَوْمِ وَشَرَفِهِ عِنْدَ اللّهِ وَاخْتِيَارِ اللّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَيّامِ وَلَا رَيْبَ أَنّ لِلْوَقْفَةِ فِيهِ مَزِيّةً عَلَى غَيْرِهِ.
التّاسِعُ أَنّهُ مُوَافِقٌ لِيَوْمِ الْمَزِيدِ فِي الْجَنّةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الّذِي يُجْمَعُ فِيهِ أَهْلُ الْجَنّةِ فِي وَادٍ أَفْيَحَ وَيُنْصَبُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ فَيَنْظُرُونَ إلَى رَبّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَيَتَجَلّى لَهُمْ فَيَرَوْنَهُ عِيَانًا وَيَكُونُ أَسْرَعُهُمْ مُوَافَاةً أَعْجَلَهُمْ رَوَاحًا وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ أَقْرَبَهُمْ مِنْ الْإِمَامِ فَأَهْلُ الْجَنّةِ مُشْتَاقُونَ إلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ فِيهَا لِمَا يَنَالُونَ فِيهِ مِنْ الْكَرَامَةِ وَهُوَ يَوْمُ جُمْعَةٍ فَإِذَا وَافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ كَانَ لَهُ زِيَادَةُ مَزِيّةٍ وَاخْتِصَاصٍ وَفَضْلٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ.
الْعَاشِرُ أَنّهُ يَدْنُو الرّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَشِيّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ ثُمّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ أُشْهِدُكُمْ أَنّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ وَتَحْصُلُ مَعَ دُنُوّهِ مِنْهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةُ الْإِجَابَةِ الّتِي لَا يَرُدّ فِيهَا سَائِلًا يَسْأَلُ خَيْرًا فَيَقْرُبُونَ مِنْهُ بِدُعَائِهِ وَالتّضَرّعِ إلَيْهِ فِي تِلْكَ السّاعَةِ وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ تَعَالَى نَوْعَيْنِ مِنْ الْقُرْبِ أَحَدُهُمَا: قُرْبُ الْإِجَابَةِ الْمُحَقّقَةِ فِي تِلْكَ السّاعَةِ وَالثّانِي: قُرْبُهُ الْخَاصّ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ وَمُبَاهَاتُهُ بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ فَتَسْتَشْعِرُ قُلُوبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ هَذِهِ الْأُمُورَ فَتَزْدَادُ قُوّةً إلَى قُوّتِهَا وَفَرَحًا وَسُرُورًا وَابْتِهَاجًا وَرَجَاءً لِفَضْلِ رَبّهَا وَكَرَمِهِ فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا فُضّلَتْ وَقْفَةُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ عَلَى غَيْرِهَا وَأَمّا مَا اسْتَفَاضَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامّ بِأَنّهَا تَعْدِلُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَجّةً فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل خَصَائِصُ الطّيّبِ مِنْ عِبَادِ اللّهِ:

وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَارَ مِنْ كُلّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَطْيَبَهُ وَاخْتَصّهُ لِنَفْسِهِ وَارْتَضَاهُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنّهُ تَعَالَى طَيّبٌ لَا يُحِبّ إلّا الطّيّبَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ وَالْكَلَامِ وَالصّدَقَةِ إلّا الطّيّبَ فَالطّيّبُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ هُوَ مُخْتَارُهُ تَعَالَى. وَأَمّا خَلْقُهُ تَعَالَى فَعَامّ لِلنّوْعَيْنِ وَبِهَذَا يُعْلَمُ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَشَقَاوَتِهِ فَإِنّ الطّيّبَ لَا يُنَاسِبُهُ إلّا الطّيّبُ وَلَا يَرْضَى إلّا بِهِ وَلَا يَسْكُنُ إلّا إلَيْهِ وَلَا يَطْمَئِنّ قَلْبُهُ إلّا بِهِ فَلَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْكَلِمُ الطّيّبُ الّذِي لَا يَصْعَدُ إلَى اللّهِ تَعَالَى إلّا هُوَ وَهُوَ أَشَدّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنْ الْفُحْشِ فِي الْمَقَالِ وَالتّفَحّشِ فِي اللّسَانِ وَالْبَذَاءِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنّمِيمَةِ وَالْبُهْتِ وَقَوْلِ الزّورِ وَكُلّ كَلَامٍ خَبِيثٍ. وَكَذَلِكَ لَا يَأْلَفُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلّا أَطْيَبَهَا وَهِيَ الْأَعْمَالُ الّتِي اجْتَمَعَتْ عَلَى حُسْنِهَا الْفِطَرُ السّلِيمَةُ مَعَ الشّرَائِعِ النّبَوِيّةِ وَزَكّتْهَا الْعُقُولُ الصّحِيحَةُ فَاتّفَقَ عَلَى حُسْنِهَا الشّرْعُ وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ مِثْلُ أَنْ يَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَيُؤْثِرَ مَرْضَاتَهُ عَلَى هَوَاهُ وَيَتَحَبّبَ إلَيْهِ جَهْدَهُ وَطَاقَتَهُ وَيُحْسِنَ إلَى خَلْقِهِ مَا اسْتَطَاعَ فَيَفْعَلَ بِهِمْ مَا يُحِبّ أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ وَيُعَامِلُوهُ بِهِ وَيَدَعُهُمْ مِمّا يُحِبّ أَنْ يَدَعُوهُ مِنْهُ وَيَنْصَحُهُمْ بِمَا يَنْصَحُ بِهِ نَفْسَهُ وَيَحْكُمُ لَهُمْ بِمَا يُحِبّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِهِ وَيَحْمِلُ أَذَاهُمْ وَلَا يُحَمّلُهُمْ أَذَاهُ وَيَكُفّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ وَلَا يُقَابِلُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْ عِرْضِهِ وَإِذَا رَأَى لَهُمْ حَسَنًا أَذَاعَهُ وَإِذَا رَأَى لَهُمْ سَيّئًا كَتَمَهُ وَيُقِيمُ أَعْذَارَهُمْ مَا اسْتَطَاعَ فِيمَا لَا يُبْطِلُ شَرِيعَةً وَلَا يُنَاقِضُ لِلّهِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا وَلَهُ أَيْضًا مِنْ الْأَخْلَاقِ أَطْيَبُهَا وَأَزْكَاهَا كَالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ وَالسّكِينَةِ وَالرّحْمَةِ وَالصّبْرِ وَالْوَفَاءِ وَسُهُولَةِ الْجَانِبِ وَلِينِ الْعَرِيكَةِ وَالصّدْقِ وَسَلَامَةِ الصّدْرِ مِنْ الْغِلّ وَالْغِشّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالتّوَاضُعِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعِزّةِ وَالْغِلْظَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللّهِ وَصِيَانَةِ الْوَجْهِ عَنْ بَذْلِهِ وَتَذَلّلِهِ لِغَيْرِ اللّهِ وَالْعِفّةِ وَالشّجَاعَةِ وَالسّخَاءِ وَالْمُرُوءَةِ وَكُلّ خُلُقٍ اتّفَقَتْ عَلَى حُسْنِهِ الشّرَائِعُ وَالْفِطَرُ وَالْعُقُولُ. وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ مِنْ الْمَطَاعِمِ إلّا أَطْيَبَهَا وَهُوَ الْحَلَالُ الْهَنِيءُ الْمَرِيءُ الّذِي يُغَذّي الْبَدَنَ وَالرّوحَ أَحْسَنَ تَغْذِيَةٍ مَعَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ مِنْ تَبِعَتِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ مِنْ الْمَنَاكِحِ إلّا أَطْيَبَهَا وَأَزْكَاهَا وَمِنْ الرّائِحَةِ إلّا أَطْيَبَهَا وَأَزْكَاهَا وَمِنْ الْأَصْحَابِ وَالْعُشَرَاءِ إلّا الطّيّبِينَ مِنْهُمْ فَرُوحُهُ طَيّبٌ وَبَدَنُهُ طَيّبٌ وَخُلُقُهُ طَيّبٌ وَعَمَلُهُ طَيّبٌ وَكَلَامُهُ طَيّبٌ وَمَطْعَمُهُ طَيّبٌ وَمَشْرَبُهُ طَيّبٌ وَمَلْبَسُهُ طَيّبٌ وَمَنْكَحُهُ طَيّبٌ وَمَدْخَلُهُ طَيّبٌ وَمَخْرَجُهُ طَيّبٌ وَمُنْقَلَبُهُ طَيّبٌ وَمَثْوَاهُ كُلّهُ طَيّبٌ. فَهَذَا مِمّنْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ: {الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النّحْلُ 32] وَمِنْ الّذِينَ يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ الْجَنّةِ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزّمَرُ 72] وَهَذِهِ الْفَاءُ تَقْتَضِي السّبَبِيّةَ أَيْ بِسَبَبِ طِيبِكُمْ اُدْخُلُوهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلطّيّبَاتِ} [النّورُ 26] وَقَدْ فُسّرَتْ الْآيَةُ بِأَنّ الْكَلِمَاتِ الْخَبِيثَاتِ لِلْخَبِيثِينَ وَالْكَلِمَاتِ الطّيّبَاتِ لَلطّيّبِينَ وَفُسّرَتْ بِأَنّ النّسَاءَ الطّيّبَاتِ لِلرّجَالِ الطّيّبِينَ وَالنّسَاءَ الْخَبِيثَاتِ لِلرّجَالِ الْخَبِيثِينَ وَهِيَ تَعُمّ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ فَالْكَلِمَاتُ وَالْأَعْمَالُ وَالنّسَاءُ الطّيّبَاتُ لِمُنَاسِبِهَا مِنْ الطّيّبِينَ وَالْكَلِمَاتُ وَالْأَعْمَالُ وَالنّسَاءُ الْخَبِيثَةُ لِمُنَاسِبِهَا مِنْ الْخَبِيثِينَ فَاللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الطّيّبَ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنّةِ وَجَعَلَ الْخَبِيثَ بِحَذَافِيرِهِ فِي النّارِ فَجَعَلَ الدّورَ ثَلَاثَةً دَارًا أُخْلِصَتْ لَلطّيّبِينَ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِ الطّيّبِينَ وَقَدْ جَمَعَتْ كُلّ طَيّبٍ وَهِيَ الْجَنّةُ وَدَارًا أُخْلِصَتْ لِلْخَبِيثِ وَالْخَبَائِثِ وَقَعَ الِابْتِلَاءُ وَالْمِحْنَةُ بِسَبَبِ هَذَا الِامْتِزَاجِ وَالِاخْتِلَاطِ وَذَلِكَ بِمُوجَبِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيّةِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ مَعَادِ الْخَلِيقَةِ مَيّزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطّيّبِ فَجَعَلَ الطّيّبَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ وَجَعَلَ الْخَبِيثَ وَأَهْلَهُ فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى دَارَيْنِ فَقَطْ الْجَنّةِ وَهِيَ دَارُ الطّيّبِينَ وَالنّارِ وَهِيَ دَارُ الْخَبِيثِينَ وَأَنْشَأَ اللّهُ تَعَالَى مِنْ أَعْمَالِ الْفَرِيقَيْنِ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فَجَعَلَ طَيّبَاتِ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ هِيَ عَيْنَ نَعِيمِهِمْ وَلَذّاتِهِمْ أَنْشَأَ لَهُمْ مِنْهَا أَكْمَلَ أَسْبَابِ النّعِيمِ وَالسّرُورِ وَجَعَلَ خَبِيثَاتِ أَقْوَالِ الْآخَرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ هِيَ عَيْنَ عَذَابِهِمْ وَآلَامِهِمْ فَأَنْشَأَ لَهُمْ مِنْهَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْعِقَابِ وَالْآلَامِ حِكْمَةً بَالِغَةً وَعِزّةً بَاهِرَةً قَاهِرَةً لِيُرِيَ عِبَادَهُ كَمَالَ رُبُوبِيّتِهِ وَكَمَالَ حِكْمَتِهِ وَعِلْمَهُ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلِيَعْلَمَ أَعْدَاؤُهُ أَنّهُمْ كَانُوا هُمْ الْمُفْتَرِينَ الْكَذّابِينَ لَا رُسُلُهُ الْبَرَرَةُ الصّادِقُونَ. قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النّحْلُ 38-39]. وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلسّعَادَةِ وَالشّقَاوَةِ عُنْوَانًا يُعْرَفَانِ بِهِ فَالسّعِيدُ الطّيّبُ لَا يَلِيقُ بِهِ إلّا طَيّبٌ وَلَا يَأْتِي إلّا طَيّبًا وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلّا طَيّبٌ وَلَا يُلَابِسُ إلّا طَيّبًا وَالشّقِيّ الْخَبِيثُ لَا يَلِيقُ بِهِ إلّا الْخَبِيثُ وَلَا يَأْتِي إلّا خَبِيثًا وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلّا الْخَبِيثُ فَالْخَبِيثُ يَتَفَجّرُ مَنْ قَلْبِهِ الْخُبْثُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ وَالطّيّبُ يَتَفَجّرُ مِنْ قَلْبِهِ الطّيبُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي الشّخْصِ مَادّتَانِ فَأَيّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنْ أَرَادَ اللّهَ بِهِ خَيْرًا طَهّرَهُ مِنْ الْمَادّةِ الْخَبِيثَةِ قَبْلَ الْمُوَافَاةِ فَيُوَافِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُطَهّرًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَطْهِيرِهِ بِالنّارِ فَيُطَهّرُهُ مِنْهَا بِمَا يُوَفّقُهُ لَهُ مِنْ التّوْبَةِ النّصُوحِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفّرَةِ حَتّى يَلْقَى اللّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ وَيُمْسِكُ عَنْ الْآخَرِ مَوَادّ الْقِيَامَةِ بِمَادّةِ خَبِيثَةٍ وَمَادّةٍ طَيّبَةٍ وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى تَأْبَى أَنْ يُجَاوِرَهُ أَحَدٌ فِي دَارِهِ بِخَبَائِثِهِ فَيُدْخِلَهُ النّارَ طُهْرَةً لَهُ وَتَصْفِيَةً وَسَبْكًا فَإِذَا خَلَصَتْ سَبِيكَةُ إيمَانِهِ مِنْ الْخَبَثِ صَلُحَ حِينَئِذٍ لِجِوَارِهِ وَمُسَاكَنَةِ الطّيّبِينَ مِنْ عِبَادِهِ. وَإِقَامَةُ هَذَا النّوْعِ مِنْ النّاسِ فِي النّارِ عَلَى حَسَبِ سُرْعَةِ زَوَالِ تِلْكَ الْخَبَائِثِ مِنْهُمْ وَبُطْئِهَا فَأَسْرَعُهُمْ زَوَالًا وَتَطْهِيرًا أَسْرَعُهُمْ خُرُوجًا وَأَبْطَؤُهُمْ أَبْطَؤُهُمْ خُرُوجًا جَزَاءً وِفَاقًا وَمَا رَبّك بِظَلّامِ لِلْعَبِيدِ. وَلَمّا كَانَ الْمُشْرِكُ خَبِيثَ الْعُنْصُرِ خَبِيثَ الذّاتِ لَمْ تُطَهّرْ النّارُ خُبْثَهُ بَلْ لَوْ خَرَجَ مِنْهَا لَعَادَ خَبِيثًا كَمَا كَانَ كَالْكَلْبِ إذَا دَخَلَ الْبَحْرَ ثُمّ خَرَجَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ حَرّمَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِ الْجَنّةَ. وَلَمّا كَانَ الْمُؤْمِنُ الطّيّبُ الْمُطَيّبُ مُبَرّئًا مِنْ الْخَبَائِثِ كَانَتْ النّارُ حَرَامًا عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَطْهِيرَهُ بِهَا فَسُبْحَانَ مَنْ بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الْعُقُولَ وَالْأَلْبَابَ وَشَهِدَتْ فِطَرُ عِبَادِهِ وَعُقُولُهُمْ بِأَنّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَرَبّ الْعَالَمِينَ لَا إلَهَ إلّا هُوَ.